فصل: المبحث التاسع: كتابة القرآن ورسمه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.المبحث التاسع: كتابة القرآن ورسمه:

.الكتابة عند العرب:

يحسن بنا قبل البحث في كتابة القرآن ورسمه أن نبين كيف كان حال الكتابة في مكة والمدينة قبل البعثة المحمدية، فنقول: يكاد يجمع المؤرخون على أن الخط دخل إلى مكة بوساطة حرب ابن أمية بن عبد شمس، وإن كانوا اختلفوا في المصدر الذي تعلم منه حرب بن أمية الكتابة، ففي رواية ابن الكلبي أن حربا تعلمها من بشر بن عبد الملك، أخي أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، ذلك أن حربا تعرف به في أسفاره إلى العراق، فتعلم منه الكتابة ثم قدم معه بشر إلى مكة وتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان، وبذلك تيسر لجماعة من قريش أن يتعلموا الكتابة والقراءة، وقد أخذ أهل العراق الكتابة عن أهل الأنبار، وأهل الأنبار تعلموا الخط من جماعة من عرب طيّء أخذوا الكتابة عن كاتب الوحي لسيدنا هود عليه السلام.
وفي رواية أبي عمرو الداني عن زياد بن أنعم عن ابن عباس أن حربا تعلم الخط من عبد الله بن جدعان، وعبد الله تعلم من أهل الأنبار، وأهل الأنبار تعلموا من طارئ طرأ عليهم من اليمن، وهذا الطارئ تعلم من الخلجان بن موهم وكان كاتب الوحي لهود نبي الله عن الله عز وجل، وبذلك وجد من يكتب بمكة قبل البعثة.
وأما الخط في المدينة المنورة فقد ذكر أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها وكان فيها يهودي يعلم الصبيان القراءة والكتابة، وكان فيها بضعة عشر رجلا يعرفون الكتابة منهم زيد بن ثابت، الذي تعلم كتابة اليهود بعد الهجرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والمنذر بن عمرو، وأبي بن وهب، وعمرو ابن سعيد وغيرهم.
ومن ثم نرى أن الكتابة وجدت في العرب قبل الإسلام، وكان الذين يحذقونها قليلين جدّا أما الغالبية العظمى فكانت أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولهذا سميت الأمة العربية بالأمة الأمية.
وقد كان وجود الكتابة في العرب قبيل الإسلام، إرهاصا لبعثة خاتم الرسل: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليجتمع للقرآن الكتابة في الصحف والتقييد في السطور إلى الحفظ في الصدور، وبذلك يتهيأ للقرآن من دواعي الحفظ ما لم يتهيأ لغيره ويتحقق وعد الحق جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} وأيضا بعد صلح الحديبية، فقد كانت الكتابة من أسباب تبليغ الرسالة المحمدية إلى الملوك والأمراء فقد كاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم داعيا إلى عبادة الله وحده، والانضواء تحت لواء الإسلام، ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، وبذلك تعدت الرسالة حدود الجزيرة العربية، إلى العالم المعروف آنئذ، وقد عثر على كتاب من هذه الكتب وهو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط، وهو أثر من الآثار النبوية القيمة.

.الإسلام والكتابة:

ولما جاء الإسلام رفع من شأن الكتابة وتعلمها، وشأن العلم والمعرفة وليس أدل على ذلك من أول سورة نزلت منه، أشادت بالقلم وأنه أداة العلم والمعرفة الكسبيين، وهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} فقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} إشارة إلى العلم الكسبي، وقوله: {عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} إشارة إلى العلم الوهبي.
وهذا هو الله سبحانه وتعالى يقسم بالقلم فيقول: {ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ} وفي القسم به من ذي الجلال إشادة به، وتنبيه الناس إلى ما فيه من الفوائد والمزايا.
وفي الحديث الصحيح المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي وصححه.
وإن دينا يشيد بالقلم هذه الإشادة لهو دين العلم والمدنية الصحيحة.
وهذا هو النبي صلوات الله وسلامه عليه تواتيه أول فرصة لنشر القراءة والكتابة فينتهزها، كي يتعلمها أكبر عدد من أبناء المسلمين وصبيانهم؛ فقد روى الرواة الأثبات أن المسلمين أسروا في غزوة بدر الكبرى سبعين رجلا من المشركين فقبل النبي ممن عنده مال الفداء، وكان ذلك أربعة آلاف درهم من الموسرين، أما من كان يحسن القراءة والكتابة فقد جعل فداءه أن يعلم عشرة من غلمان المدينة القراءة والكتابة وقد فعل النبي هذا في وقت كان المسلمون أحوج إلى درهم ليزيلوا به خصاصتهم ويتقووا به على أعدائهم، ولكن ذا المواهب أدرك أن تعليم الأمة الكتابة خير من المال وأنها من عوامل تقدم الأمة ورقيها وبهذه السياسة الحكيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع لبنة في إزالة الأمية من الأمم والشعوب: وأن الإسلام سبق إلى محاربة الأمية والجهل من قرابة أربعة عشر قرنا، على حين كان غيرهم ممن بيدهم مقاليد الأمور يحرصون على أن تبقى شعوبهم منغمسة في حمأة الجهل والخرافات، ولقد كان لهذه السياسة الرشيدة أثرها فقد انتشرت الكتابة بين المسلمين وانتشر العلم والمعرفة وصارت تنتشر في كل قطر فتحه المسلمون، ولا يخالف هذا ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» إذ هو إخبار عما كانت عليه غالبية الأمة، ثم صار العلم والثقافة الأصيلة من أخص خصائص الأمة الإسلامية.

.كتابة القرآن الكريم:

لقد كتب القرآن جميعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان مفرقا في العسب، واللخاف، والأكتاف، والرقاع، ونحوها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن دعا بعض كتاب الوحي، فيأمره بكتابة ما نزل، ويرشده إلى موضعه من سورته، والكيفية التي تكتب عليها الكتابة، ولم يجاور الرسول الرفيق الأعلى إلا والقرآن كله مكتوب مسطور.
ثم كتب في عهد الصديق رضي الله عنه في صحف مجموعة، وكانت كتابته من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كتب في عهد عثمان رضي الله عنه في المصاحف على ما هو عليه، وكانت كتابته من عين ما كتب في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه؛ إلا أنه اقتصر في رسمه على ما يوافق حرف قريش، وقد بينا آنفا في مبحث جمع القرآن الأطوار التي مرت بها كتابة القرآن وتدوينه، ولعلك على ذكر منها.

.كتّاب الوحي:

لقد كان لكتابة القرآن بين يدي النبي كتاب من الصحابة معروفون بالدين الكامل والأمانة الفائقة والعقل الراجح، والتثبت البالغ، كما كانوا معروفين بالحذق في الهجاء والكتابة، وقد اشتهر منهم بكتابته: (1) أبو بكر، (2) وعمر، (3) وعثمان، (4) وعلي، (5) وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أول من كتب له بمكة، (6) والزبير بن العوام، (7) ومعاوية، (8)، وخالد، (9) وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، (10) وأبي بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، (11) وزيد بن ثابت، وهو أكثرهم كتابة بالمدينة، (12)، وشرحبيل بن حسنة، (13) وعبد الله ابن رواحة (14) وعمرو بن العاص، (15) وخالد بن الوليد، (16) والأرقم ابن أبي الأرقم المخزومي، (17) وثابت بن قيس، (18) وعبد الله بن الأرقم الزهري، (19) وحنظلة بن الربيع الأسدي، (20) ومعيقيب بن أبي فاطمة في آخرين، وقد كان هؤلاء يكتبون ما يمليه عليهم الرسول، ويرشدهم إلى كتابته من غير أن يزيدوا فيه حرفا، أو ينقصوا منه حرفا، فقد روى أحمد، وأصحاب السنن الثلاثة، وصححه ابن حبان والحاكم حديث عبد الله بن عباس عن عثمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا» ويدل على كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدا هذا أدلة كثيرة منها:
1- ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه».
2- ما روي في صحيح البخاري من قول الصديق أبي بكر لزيد بن ثابت: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ما رواه الترمذي أنه لما نزل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية قال عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش يا رسول الله إنا أعميان، فهل لنا رخصة؛ فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بالكتف والدواة وأمر زيدا أن يكتبها فكتبها»، فقال زيد: فكأني أنظر إلى موضعها عند صدع في الكتف.

.رسم المصحف:

.ما هو رسم المصحف:

رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان رضي الله عنه، ومن كان معه من الصحابة في كتابة كلمات القرآن ورسم حروفه في المصاحف التي وجه بها إلى الآفاق، والمصحف الإمام الذي احتفظ به لنفسه، وقد كان علما مستقلا وعني بالتأليف فيه علماء من المتقدمين والمتأخرين، منهم الشيخ الإمام أبو عمرو الداني في كتابه المقنع، ومنهم الشيخ العلامة أبو عباس المراكشي فقد ألف في توجيه ما خالف قواعد الخط منه كتابا سماه: عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل بين فيه أن هذه الأحرف إنما اختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها، وأن فيها فوائد بلاغية، ولغوية ونحوية ومنهم العلامة الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي، إذ نظم في ذلك أرجوزة، ثم جاء المرحوم العلامة الشيخ محمد على خلف الحسيني، شيخ المقارئ المصرية، فشرح تلك المنظومة، وذيل الشرح له بكتاب له سماه مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن، وألف فيه أيضا أستاذنا الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي كتيبا صغير سماه: إيقاظ الأعلام إلى اتباع رسم المصحف الإمام.